… كم عمراً سيمر لمعرفة الحقيقة؟
يقف أهالي شهداء تفجير المرفأ الإرهابي، على قارعة العالم، يصرخون حتى عمق الجرح، مطالبين بالعدالة لأشلاء أبنائهم، يصرخ معهم الشعب اللبناني الحر السيادي المغمّس عمره باللاعدالة، بالأشلاء، المتعطش لدولة القانون، للدولة، للحقيقة.
على ضفة العدالة سبقهم في الإنتظار أهالي شهداء تفجير كنيسة سيدة النجاة الذوق. منذ 27 شباط 1994 يقفون في انتظار زمن ما، عدالة ما، علّ جثة القاتل تعبر، أو لنقل ليس جثة، إذ لم يطالبوا يومًا بالإنتقام الهمجي العنيف، بل ينتظرون خبرًا ما، طائراً ما يبلل دمعهم الجاف بأن العدالة ستأتي ولو بعد حين، ولكنها لم تعبر، لم تأتِ، بل مرت بهم جثة العدالة مقطعة أشلاء أشلاء كأبنائهم وأهلهم تمامًا، والجثة إياها ما زالت حتى اللحظة. نعم أشلاء العدالة في جيبهم.
تعفّنت أشلاء العدالة في جيب أهالي تفجير كنيسة سيدة النجاة، ومع ذلك تركوها في جيوبهم عسى أن يأتي الوقت ويدق جرس الحق أخيرًا. ماتت العدالة ودُفنت مع شهداء تفجير كنيسة سيدة النجاة، وطمر أزلام الإحتلال السوري معالمها بالكامل، ومع ذلك احتفظ الأهالي بأشلاء العدالة في جيوبهم لعل الزمن ينتقم لنفسه بنفسه، وما فُجِّر وطُمر في الـ1994، علّه أخيرًا ينتفض من رماد الموت ويخلق من الموت حياة، والمستحيل يصبح ممكناً، من يدري!
يقف أهالي تفجير كنيسة سيدة النجاة أمام لائحة العشرة شهداء، صامتين في أنينهم المكتوم، يخنقهم وجع الذكرى المروّعة وجنونها، ويقتلهم صمت العدالة. تناستهم الدولة عمدا، تناستهم الأيام، بحّت أصوات شهداء الكنيسة وهي تصرخ من قبورها ولا أحد يسمعها إلا الأهالي أنفسهم، بُحّت أصوات الأهالي التي خنقها الزمن بعدما كان خنقها الإحتلال السوري وعملاؤه الصغار. تعرضوا للكثير، للإضطهاد، للملاحقة، للتهديد، لانتقال الملف من قاضٍ الى آخر كمن يتناتش غنيمة ليمزمز على وجعها وقهرها. وأسوأ أسوأ ما واجهوه هو النسيان!! كيف تنسى تلك الدولة المزرعة المرتهنة للإحتلالات المتعاقبة، ما تبقّى من حرقات مجمدة في القلوب المحترقة، كيف؟!
على غرار كل ملفات الإغتيالات تمت لفلفة ملف تفجير كنيسة سيدة النجاة. فجأة اختفت المعالم والدلائل وشهود العيان، حكموا على سمير جعجع وسواه، ألبسوا «القوات اللبنانية» التهمة المروعة، اعتقلوا الحكيم والشباب وارتاحوا هم على كراسي العظام البشرية التي أجلسهم عليها بشار الأسد مكافأة لعمالتهم. أسياد في العمالة، قبيحون أكثر من القباحة نفسها، قتلوا الأبرياء ليعتقلوا مقاومين شجعاناً أبرياء. إمتدت أياديهم الآثمة الى مذبح الرب، ليستشهد أطفال وشباب ونساء على إسم المسيح. إرتفعوا مضرّجين بالإيمان وبمشلح العذراء مريم. أرادوا إذلالهم فكانوا شهداء الكنيسة وأي شهادة بعد أعظم من تلك، ولكنهم وللأسف ربي ما زال القتلة أحياء سعداء في عمالتهم. أنجزوا مهمتهم بنجاح منقطع النظير وها هم في البرلمان وفي الوزارة، عملاء صغار كما كانوا للإحتلال السوري. هم الآن يكملون «رسالتهم» عملاء للمحتل الإيراني، وأهالي شهداء الكنيسة هم هم، لم يتغيّروا في وجعهم. كبر أبناؤهم في بالهم فقط، بينما الأبناء ما زالوا أطفالاً في حضن المسيح، وكهولاً من دون ملامح هائمة على ضياعها في حضن العدالة المدفونة.
كم عمرا مرّ على تفجير كنيسة سيدة النجاة؟ لا تُحتسب بعدد السنين إنما بدهر القهر والألم. لو تحققت لهم العدالة لكانوا اكتفوا بدمعهم المالح والذكرى الحلوة عن أحباء رحلوا عنوة، ولكان حسبهم أن من رحّلهم بهمجية الدم هو الآن خلف القضبان يلقى عقابه المستحق، ولم يحصل، ولن يحصل. سيبقى شهداء تفجير كنيسة سيدة النجاة في اللاعدالة، ونجا القتلة، ونراهم ونسمعهم على الشاشات، يغرّدون على «تويتر» وكأن لا شيء حصل. إعتادوا قتل أهلنا وشبابنا. لم تكن تلك المرة الأولى ولا كانت الأخيرة، واسألوا رمزي عيراني وفوزي الراسي وغيرهم وغيرهم، كلهم يرقدون في اللاعدالة. أتستحق إليان بطيش، ميراي مشعلاني، ماري عطالله، ألفرد عطالله، منصور سكر، أنطوان عماد، أندريه عيد، توفيق منصور، عبود أبو خليل، توفيق خليل، أن يُدفنوا بتابوت أبيض واحد مع العدالة؟! كم عمرًا سيمرّ على تفجير مرفأ بيروت؟ كم عمرًا سيمرّ على أولاد الضحايا ودموع الأمهات؟ أي ظلم فائق هذا يا أرض شياطين اللاعدالة.
على ضفة العدالة أيضًا، يقف أهالي تفجير المرفأ منذ 4 آب 2020 عيونا مكوّرة في غضبها، تقاوم المخارز الهمجية الإرهابية. سلطة إحتلال تقمع إعلان الحقيقة والمحقق العدلي في الجريمة القاضي طارق البيطار عن الوصول الى الهدف النبيل، وهم يقفون لوحدهم رمحًا في وجه آلة القتل والإغتيال، يتصدّون باللحم الحي للقتلة. على رغم اليأس هم متأملون، على رغم الحصار هم صامدون لأنهم أنقياء أحرار يواجهون الإرهاب بالمواجهة السلمية. لا أحد يستطيع أن يكون أقوى من سلاح السلام والكلمة وصوت الحق، مهما ظن أنه عظيم جبّار بترسانته وإرهابه، الحقيقة المجرّدة وحدها تهزم أساطين الإحتلال والإرهاب، لذلك وعلى رغم ما يبدون من إستخفاف، هم خائفون، خائفون من الأهالي العزّل إلا من الحق والوجع والغضب، خائفون الى أي مدى قد يمكن أن يصل هؤلاء بعد إعلانهم أنهم لن يتوقفوا لو اعتقلوا كل اللبنانيين، لن يتوقفوا لو اعتقلوا الحقيقة نفسها، ولا يمكن لأي بشري في الحياة أن يعتقل الحقيقة الى أبد الأبدين، ستتحرر وتفضحهم وتعتقلهم وتحاكمهم ولذلك هم مذعورون.