الكهرباء “نموذج” عن الحكم في لبنان
أعادت موافقة البنك الدولي على قرض بقيمة 150 مليون دولار لدعم استيراد القمح السؤال عن مصير قرض تمويل الكهرباء من الاردن. فعلى الرغم من أهمية الرغيف في معيشة اللبنانيين، إلا أن كلفة رفع الدعم عنه كلياً تبقى أقل بما لا يقارن على الافراد والاقتصاد من انعدام توفر الكهرباء. هذا عدا عن أن الوعد بتمويل استجرار الكهرباء سابق لطلب المساعدة في دعم القمح وهو يعود إلى آب 2021.
يشكل القمح 70 في المئة من كلفة صناعة الرغيف، ورفع الدعم عنه كلياً يعني وصول سعر الربطة الواحدة زنة 860 غراماً إلى ما بين 30 و35 ألف ليرة، أو ما يعني تحمّل الأسر قرابة المليون ليرة شهريا بدل استهلاك ربطة خبز واحدة يومياً. في المقابل فان ترك حل أزمة الكهرباء على المولدات الخاصة يكلف الاسرة ما لا يقل عن 1.5 مليون شهرياً بدل الحصول على 5 ساعات فقط، ويهدد بارتفاعات متتالية نتيجة إمكانية ارتفاع الدولار داخلياً وأسعار النفط عالمياً. تضاف اليها كلفة هائلة على الاقتصاد وتراجع الاستثمارات وإقفال المؤسسات.
قرض الكهرباء معلّق
مصادر متابعة تلفت إلى أن الجهات الممولة على دراية بخطر الكهرباء المحدق، إنما عدم تمويل شرائها يعود إلى استشعارهم بفساد الطبقة السياسية المسؤولة عن الملف، واهتمامها فقط بالحلول الآنية الترقيعية من دون الدخول بالحل الدائم. فاتفاقية استجرار الكهرباء من الأردن تنص على تزويد لبنان بالكهرباء بقدرة 250 ميغاواطاً بالحد الأقصى. ومدة الاتفاقية سنة واحدة قابلة للتجديد بقيمة 220 مليون دولار. إلا أن التدقيق بالتفاصيل المالية والتقنية للاتفاقية وواقع الحال في لبنان، يعكسان الخسارة التي ستلحق به، فيما تصر السلطات اللبنانية، وتحديداً وزارة الطاقة على تجاهل حلول أخرى في هذا القطاع أقل كلفة وأكثر إنتاجية على المديين المتوسط والطويل. فالاتفاقية تنص على ارتباط سعر الخدمة الكهربائية الأردنية بسعر خام برنت المستخدم كمعيار لتسعير ثلثي إنتاج النفط العالمي. وسعر برميل خام برنت حالياً يتخطى الـ113 دولاراً. وبموجب الاتفاقية، سيتخطّى سعر الكيلواط ساعة الـ12 سنتاً، وهي كلفة ليست مغرية للبنان اذا ما قورنت بحلول اخرى.
وبالتالي فان قيمة القرض المحددة بـ 220 مليون دولار، لشراء الكهرباء الأردنية سيتم استنزافها مع ارتفاع الاسعار عالمياً. وإذا غطّى القرض قيمة العقد لسنة، سيضطر بعدها لبنان للبحث عن مصادر تمويل أخرى قبل تجديد العقد، أو البحث عن مصادر جديدة «للمرة الألف» لتأمين الكهرباء. ما يذكّر بحل البواخر «الموقت» الذي انهك خزينة الدولة ليتحول الى حل شبه دائم، وليستقيظ لبنان بعد انتهاء مدة العقد على العتمة.
ومن الجدير ذكره أن لبنان لن يحصل على كامل الطاقة التي سيدفع ثمنها، إذ ستحصل سوريا على 8 بالمئة من الكهرباء التي ستمر بأراضيها، فضلاً عن نسبة الهدر الفني التي ستضيع على الشبكة الممتدة من الأردن إلى لبنان، بفعل طول المسافة. وأيضا الهدر التقني وغير التقني على الشبكة الداخلية والذي يصل راهناً إلى نحو 50 في المئة.
اذن فالحل الذي وُعد به اللبنانيون هو بالحقيقة لن يكون سوى باب جديد للهدر، وهذه المرة ايضا لتمويل نظام الاسد «قانونياً». بل واكثر من ذلك، فالموافقة الاميركية التي وُعد بها لبنان والالتفاف على قانون قيصر ليسا كافيين لاستجرار الكهرباء من الاردن عبر سوريا، فالبنك الدولي الممول للمشروع لديه أمور أخرى يركز عليها غير المواقف السياسية ومنها: إصلاح قطاع الكهرباء في لبنان، وكذلك إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان ووقف العجز والهدر فيها وإجراء تدقيق مالي، ورفع التعرفة وتخفيض الهدر الفني ورفع التعديات على الشبكة وتحسين الجباية وبالتأكيد تعيين الهيئة الناظمة، اضافة الى ضمان قدرة لبنان على سداد القرض، وكلها امور لم تحصل حتى هذه اللحظة.
الحلول البديلة حاضرة
مع انقطاع التيار الكهربائي عن جميع المناطق اللبنانية بما في ذلك العاصمة لساعات وأحياناً لأيام، لجأ العديد من اللبنانيين في المنازل وفي قطاعات عدة الى حلول بديلة، وتحديداً الطاقة الشمسية، وهو ما طرح تساؤلاً: لماذا لا تلجأ الدولة اللبنانية الى الاستفادة من المساحات الواسعة التي تملكها من الطاقة الشمسية التي يمكن ان تولدها وخصوصا ان لبنان يتمتع بوجود اشعة الشمس معظم ايام السنة. حتى ان دفاتر شروط تلزيم بناء محطات الطاقة الشمسية موجودة، كما أن صلاحيات مجلس الوزراء بالحلول مكان الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء وإعطاء الإذن بإجراء المناقصات، ظلت سارية المفعول حتى نهاية شهر نيسان الماضي بموجب القانون 129/2019.
وبوجود دفتر الشروط والقدرة التقنية «ما على الحكومة سوى تبنّي المشروع على عقارات الدولة، وفتح المجال أمام المستثمرين الجاهزين، وليُنتِج كل مستثمر قدر ما يمكنه»، بحسب مصادر متابعة. و»هناك إمكانية لإنتاج أكثر من 1000 ميغاواط من الطاقة الشمسية، وإمكانية جمع الإنتاج بنظام موحَّد، وبتكلفة تتراوح بين 5 و6 سنتات للكيلواط، أي أقل بنحو نصف كلفة الكهرباء الأردنية، وبأقل ما تنتجه بعض المعامل اللبنانية القديمة التي يصل سعر الكيلواط فيها إلى نحو 24 سنتاً».
ولكن يبدو مرة جديدة أن السبب الأساسي للفشل الذريع في قطاع الكهرباء، هو أن «ثمة من هو في السلطة لا يرغب في سد مزاريب الفساد التي كانت سبباً رئيسياً للانهيار المالي والاقتصادي في البلاد. بل يسعى جاهداً، رغم ان لبنان في القرن الواحد والعشرين يعيش من دون كهرباء، لاستمرار العجز في قطاع الكهرباء وجعلها مغارة علي بابا لتمرير الصفقات والسمسرات».
المولدات حلّ لا يتغير
على خط مواز للفساد غير المقنع في قطاع الكهرباء، هناك فساد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بفشل وعجز مؤسسة كهرباء لبنان، بل يكاد يكون جزء كبير من الفساد في قطاع الكهرباء، هو لفتح باب الفساد في قطاع المولدات البديل، حيث الرقابة هناك تكاد تكون معدومة. ففي حين كانت الحلول جميعها موقتة ومتبدلة، كانت المولدات الكهربائية هي الحل الدائم والثابت مع تبدل جميع الحلول الاخرى المطروحة، حتى صار هناك ما يعرف بمافيا اصحاب المولدات والتي تكاد تكون اقوى من اي «مافيا» اخرى تتحكم بحياة اللبنانيين وارزاقهم، بحسب المصادر.
فجميع المشكلات التي ضربت القطاع منذ الحرب الاهلية وما بعدها، وصولاً الى الازمة الخانقة التي يعانيها لبنان اليوم بموضوع الكهرباء، كانت حافزاً لقيام شبكة موازية لإنتاج الطاقة هي شبكة اصحاب المولدات. وتقف هذه الشبكة عائقاً أمام أي مشروع إصلاحي للقطاع وتنشط بالتواطؤ مع المراجع السياسية، وباتت لديها خطوطها الخاصة للنقل والتوزيع والجباية، وباتت ارباحها تتعدى ملايين الدولارات سنويا. ويبقى ان نذكر أن «اصحاب المولدات في كثير من المناطق هم إما رؤساء بلديات او مقربون منهم، وبالتالي هم من التابعين للاحزاب المسيطرة على تلك البلديات، ويبرز الامر بشكل شديد الوضوح في بلديات الجنوب حيث تتبع البلديات بالكامل لسلطة الثنائي «الحزب» وحركة امل».
مغارة علي بابا
وزارة الطاقة التي توالى عليها منذ اتفاق الطائف الى اليوم وزراء من حركة امل و»الحزب»، ومن ثم آلت الى التيار الوطني الحر، صارت والتيار متلازمين لا ينفصلان. ورغم ما سببته وتسببه من خسائر للبنان ومعاناة للبنانيين، وتكلفتها مليارات الدولارات ظلت النتيجة العتمة الشاملة. فقطاع الكهرباء لا يمكن اعتباره فقط «مغارة علي بابا» اللبنانية، إذ رغم كل فضائح الفساد الموثقة، ورغم النتائج الكارثية التي تسببت بها السياسات المتبعة في هذا القطاع، الا ان احداً من هؤلاء المسؤولين لم يحاسب. ولم يحاول أحد من هؤلاء الفرقاء حتى الابتعاد عن كرة النار تلك. وهذا ان دل على شيء فعلى ان الامر ليس الا صورة مصغرة، ولكن شديدة الوضوح عن كيفية تسيير الامور في لبنان. فالشريك المسيحي القوي لـ»الحزب» يغطي الحزب وسلاحه، ويعطيه «شرعية» المقاومة، وما ينتج عن ذلك من فساد في مختلف الملفات وابرزها التهريب، مقابل ان يعطيه الحزب «مغارة علي بابا». فتمر الصفقات والتنفيعات والسمسرات. ورغم كل هذا الفشل الذريع، ما زال رئيس التيار الوطني الحر الخاضع للعقوبات الأميركية بتهم فساد، يطمح ان يكون رئيساً للجمهورية اللبنانية بقوة سلاح «الحزب».