بين حزنين
أشد الحزن يسكن الموسيقا الفارسيّة، حزن يليق بسكان تلك البلاد، أنا لم أزرْ بلاد فارس، وقد لا أفعل، لكنّي أقمت في العراق عشرًا وعامًا.
كان الحزن في العراق موسيقا وشعرًا، لم يكن الحزن هناك دمعًا.
كان بزّة عسكريّة، تُقِلُّ النّاس صوب الموت. وحافلة نَقلِ جنود، توقّف كلّ من فيها عن فعل أيّ شيء سوى التّدخين.
وكان امرأة عند باب بيتها تنتظر، ولا من يعود، ودلّالة تتوسد كفّها خلف بقجة سوداء تغفو تعبًا، وحَجّيّة داخل دكّانها الصّغير تخنق العمر بدخان سيجارة، يحجب وجهها المتهاوي عن زبائن لن يأتوا.
كنت أفهم معنى أن يقبل الشّباب في العراق على الموت بشراسة وشجاعة.
كان الإعلام أيّامها يعدّ الموت بطولة. غير أنّي كنت أدرك معنى أن يفرّ المرء من الموت في بلد أُغْلِقَ عن الحياة إلى الموت.
كان عمقه وضخامته يجعل الموت في جبهات القتال استشهادًا، ونجاة من الحزن المميت، لذا وإن أحبّ العراقيون آنذاك صدّام، فقد أحبّوه لأنّهم مجبرون على حبّه ولا زالوا. فقد كان من صانعي حزنهم الجبار الّذي لا ينتسى.
يومها لم نكن نأبه بالحزن في الضّفة الأخرى من الحرب، كان يومها الحزن طائفيًا، كان في ضفة فارسيّا وفي أخرى عربيًّا، ومن العار والكفر أن يتعاطف حزن مع حزن معادي، غير أنّ أنهار الدّمع والدّم كانت تسير إلى مصّب واحد. كان مصبها الرّوح الإنسانية المشتعلة موسيقا وأنينا.
كذلك هو الحزن في إيران اليوم، كمنشة قُدت أوتارها من جلود ألجنود الّذين ما عادوا إلى بيوتهم في قرى بعيدة، ونايٌ اقتُطِع من عظم فتاة قضت كمدًا بحثًا عن قبر، حملت له الزهور.
لقد طافت سدود أنهار الحزن الإنساني في إيران، لذا راح يتسرّب إلينا كما يصل، أغاني تحكي وجع قرون، ومواويل تصل تاريخ الأنين بعضه ببعض، وهتافًا يعاتب السّماء على كلّ ما فعلت بهم.
إنّ خلع الحجاب في إيران هو احتجاج على آلهة السّماء، وإعلان حزن لا يأبه لجحيمها المتوعّد، فالحزن في الإنسان الفارسي لامس جفون الغيم وما أمطرت خلاصًا، وجاور السّماء، دون أن تبعث فيهم مخلّصًا وإلاهًا.
فالحزن في إيران أقسى ما فيها، لذا نفرت النّساء هناك من الموت إلى الموت، وما ثورة النّساء إلًا أعظم الإدانات لأولوهية الذّكور.