شهادة شيرين واستشهادها
يخطئ البعض في لبنان في ابتعادهم المزمن عن مسألة فلسطين بسبب الصراعات اللبنانية الداخلية والاصطدام مع الفلسطينيين في لبنان إبان الحرب، ويصل بعضهم إلى حدّ التماهي مع منطلقات وغايات الاحتلال. أصحاب هذا الموقف الخاطئ يعيشون في الماضي ولم يتمكنوا من صوغ سياسات تميّز بين القضية وأحقيتها وبين خطايا بعض من حملوا لواءها آنذاك في لبنان وأساؤوا للقضية الفلسطينية عندما ظنّوا أن طريق القدس تمرّ في جونية.
أن تشهد للحق في هذا العالم أمرٌ استثنائي وغاية في الخطورة. وإذا رغبت بذلك وصممت عليه فقد لا تجد من يجاريك أو يستمع اليك، وتكون معرضاً للاضطهاد أو حتى للقتل جسدياً أو معنوياً. هذا ما ينتظرك عندما تواجه من يغتصب الأرض منذ عقود في فلسطين، أو عندما تتجرأ على نقل حقيقة ما يجري هناك فقط، أي تتجرأ على عدم تبني الرواية التي يحاول المحتلّ فرضها ليتمكن من الاستمرار في جريمته.
ليس سهلاً أن تقرر شابة فلسطينية درست في الخارج، أن تعود الى القدس لتمارس الشهادة للحق في مهنة الإعلام في أخطر الأمكنة وأقدسها.
ليس سهلاً أيضاً أن تكون هذه الشاهِدة للحق، حتى الشهادة، مسيحية مقدسيّة، في زمن يجري فيه، من الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي، تحويل القضية الفلسطينية من قضية وطن مسلوب وشعب مظلوم يتعرض للإبادة العنصرية المستمرة، إلى قضية صراع ديني بين اليهود والمسلمين.
المحتل يحقق هدفاً يسعى اليه منذ زمن بعيد وهو تحويل جريمة اغتصابه لأرض فلسطين إلى صراع ديني، وتجاريه في ذلك عن معرفة أو جهل، فصائل تحارب المحتل على أساس جهادي ديني. منذ أيام عندما اعتدت قوات الاحتلال والمستوطنون على المسجد الاقصى أطلق رئيس حركةٍ مقاومةٍ إسلامية من غزّة تهديداً لحكومة الاحتلال بوقوع حرب دينية…، طبعاً لم يطلق تهديداً مماثلًا عندما تعرض المؤمنون في كنيسة القيامة قبل ذلك بأيام وفي سبت النور تحديداً لشتى أنواع الاضطهاد بهدف منعهم من الوصول إلى الكنيسة والحصول على النور المقدس.
لا شك أن تحويل القضية الى صراع ديني يفقدها المرتكز والأساس ويجعلها وجهة نظر. وهذا في ذاته يضع المحتل في موقع رابح لأنه سيصوّر نفسه في موقع من يحارب الإرهاب ويكسب بالتالي التعاطف الدولي ما دامت شبكات الإعلام وصناعة الرأي العام الأكثر تأثيراً على المستوى العالمي خاضعة لتأثيره ومتبنية للصورة النمطية التي أعطيت للإسلام والإسلاميين.
الجهات التي تذهب في هذا التوجه تمارس احتكار القضية من منطلق ديني وتظنّ بأنها تحتكر الحقيقة، ولهذا اعتبرت هذه الحركات أن شيرين أبو عاقلة لا تستحق صفة “شهيد” لأنها مسيحية. القضية عند هؤلاء دينية إذاً ولا مكان للمواطنة. وهذا ما يريده العدو.
غالبية من بكوا شيرين لم يكونوا يعلمون ديانتها، إلى أن خرجت تصريحات هؤلاء. حتى أن بيان الحركة “المقاوِمة” المعنيّة الذي أدان واستنكر بأشدّ العبارات، لم يتضمن تعبير شهادة أو شهيدة، بل تحدث عن قتلها واغتيالها. وهذا عار عليهم وخدمة للمحتل الذي قتلها.
شيرين أبو عاقلة وُلدت في بيت لحم، القرية التي وُلد فيها المسيح، وشهدت للحق، وهو الطريق والحق والحياة، وسال دمها في القدس حيث سال دمه. ملامح وجهها تشبه حاملات الطيب اللواتي أتيْنَ إلى القبر ووَجدْنَه فارغاً ونقلْنَ خبر القيامة. أما قادة اليهود آنذاك، فبادروا إلى رشوة الحراس لإخفاء الحقيقة، وإلى اضطهاد وقتل من يجرؤ على المجاهرة بها، وهذا دأبهم إلى اليوم، ولكن النور لا ينفكّ يفيض من هناك كل عام.