كيف خُدع لبنان في اتفاق الترسيم مع إسرائيل؟
في إطلالته الأخيرة، انتبه الأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصرالله، إلى أنّ ما حصل من ترسيم للحدود البحرية الجنوبية لا يتطابق مع السيادة اللبنانية والحقوق الوطنية والضمانات التي تجعل لبنان يسير في عملية التنقيب والتطوير بالتوازي مع بدء الجانب الإسرائيلي عملية الإستخراج والتصدير من حقل كاريش، بعدما كان قد نبّهه المتخصّصون والعاملون على ملف الترسيم من دون غايات سياسية، من أنّ الذهاب إلى الصيغة التي صارت أمراً واقعاً لن تجلب للبنان ما يصبو إليه، إنّما ستبعد فقط سيف العقوبات عن رقبة المنظومة الحاكمة.
سلسلة من الخدع والأفخاخ وضعت للبنان في ملف الترسيم وأبرزها الآتي:
الخديعة الأولى: تمثّلت هذه الخديعة في مقدمة الإتفاق حيث تمّ تمرير عبارة «دولة إسرائيل» مع «جمهورية لبنان» وأشير إليهما جماعياً بـ»بالطرفين» وفردياً بـ»بالطرف». وبعد ذلك توالت في النص عبارة «يتفق الطرفان» أكثر من مرّة، لتكريس أنّ ما هو مكتوب هو اتفاق بين جمهورية لبنان ودولة إسرائيل. والأهمّ من ذلك كلّه، أنه تمّ أخذ توقيع رئيس جمهوريّة لبنان على وثيقة الموافقة على هذا الإتفاق. فهل كان هناك بديل عن ذلك؟ الجواب بكل بساطة نعم، حيث كان بالإمكان الاستعاضة عن عبارة «جمهورية لبنان ودولة إسرائيل» بعبارة «الجانب اللبناني والجانب الإسرائيلي» وبدلاً من توقيع وثيقة الموافقة من قبل رئيس الجمهورية شخصياً، تُوقّع من قبل أحد الأشخاص على المستوى التقني.
الخديعة الثانية: أتت هذه الخديعة في القسم الأول الفقرة «ب» من اتفاق الترسيم التي نصّت على أنّه: «وبهدف عدم المساس بوضع الحدود البريّة في المستقبل، فإنّه من المتوقَّع قيام الطرفين بترسيم الحدود البحرية الواقعة على الجانب المواجه للبرّ من أقصى نقطة شرقي خط الحدود البحرية في سياق ترسيم الحدود البريّة أو في الوقت المناسب بعد ترسيم الحدود البريّة». من يقرأ هذه الفقرة يعتقد أنّه بهدف الحفاظ على الحدود البريّة وعدم المساس بها، لم يتمّ ترسيم الحدود البحرية (لمسافة حوالى 5 كلم من الشاطئ) مقابل رأس الناقورة. إنما من يدقّق جيداً، يجد أن هذه المنطقة هي استراتيجية بالنسبة إلى الإسرائيلي وأن موقف العدو القانوني فيها ضعيف جداً، خاصة لناحية تحديد موقع نقطة رأس الناقورة الذي لا جدال فيه كما حدّده لبنان وفقاً لاتفاقية بوليه – نيوكومب عام 1923. وبالتالي، ما دامت هذه المنطقة تحت سيطرته الفعليّة من خلال السياج التقني وخط الطفافات، فلماذا يتخلّى عنها في الوقت الحالي وهو يستطيع إبقاءها تحت سيطرته إلى أجل غير مسمّى وباعتراف لبناني موثّق في اتفاق الترسيم تحت شعار عدم المساس بالحدود البريّة.
الخديعة الثالثة: نصّت الفقرة «ج» من القسم الثاني على أنه: «يجب ألّا تكون شركات إسرائيليّة أو لبنانيّة تَتَمتَّع بأيّ حقوق لبنانيّة في التنقيب عن الموارد الهيدروكاربونيّة وتطويرها في البلوك رقم 9 وتَنطَبِق هذه الشروط كذلك على اختيار أيّ شركات تَخلُف الشركات المذكورة أو تحل محلَّها». البعض يُعطي تفسيراً مخادعاً لهذا النص وهو أنه عدم إعطاء حق لشركات لبنانية في التنقيب في البلوك 9 كان بهدف عدم التطبيع وعدم الشراكة مع العدو، وأن هناك إنصافاً في الموضوع، حيث ما طُبق على الشركات اللبنانيّة طُبّق كذلك على الشركات الإسرائيلية.
ولكن من يُدقّق بهذه الفقرة يجد أنها شملت كامل البلوك رقم 9 الذي يمتدّ إلى مقابل صيدا، وليس فقط حقل قانا الذي من المحتمل أن يمتدّ إلى جنوب الخط 23. كما أن البلوك رقم 9 هو بكامله في المياه اللبنانية، فعبارة أنّه لا يحق لشركات إسرائيلية بحقوق في البلوك رقم 9 اللبناني هو تحصيل حاصل، أما حرمان شركات لبنانية من هذا الحق فهو أمر خطير ويمسّ بالسيادة اللبنانية، فلماذا يُفرض هذا الشرط في اتفاق الترسيم؟ فهل كان يقبل الإسرائيلي بحرمان شركاته من حقوق في البلوك 72 المحاذي للخط 23؟
أمّا في حال اكتشاف حقل نفطي في البلوك رقم 9 مقابل صيدا بعيداً عن الحدود البحرية وغير متداخل معها، وفي حال تمّ إنشاء شركة نفط وطنية مستقبلاً، ألا يحق لهذه الشركة بأن تشارك الشركات المشغلة في البلوك رقم 9 مقابل صيدا بسبب هذا النص غير السيادي في اتفاق الترسيم؟
الخديعة الرابعة: نصّت الفقرة «هـ» من «اتفاق الترسيم» أنه «يُدرِك الطرفان أنّ إسرائيل ومشغِّل البلوك رقم 9 يخوضان بشكلٍ مُنفصل نقاشات لتحديد نطاق الحقوق الاقتصاديّة العائدة لإسرائيل من المَكمَن المُحتمل (حقل قانا). وستحصل إسرائيل على تعويض من مُشغِّل البلوك رقم 9 لقاء الحقوق العائدة لها من أي مخزونات محُتملة في المَكمَن المُحتمل. لهذه الغاية، سَتعقُد إسرائيل ومُشغِّل البلوك رقم 9 اتفاقيّة ماليّة قبيل اتخاذ مُشغِّل البلوك رقم 9 قرار الاستثمار النهائي».
من يقرأ هذه الفقرة، يعتقد أن مشغّل البلوك رقم 9 ( توتال إنرجي، إني، قطر للطاقة) هو الذي سوف يعوّض لإسرائيل من أرباحه ولا علاقة للبنان بهذا الأمر، كما أنه لم يتمّ تحديد النسبة التي سوف تأخذها إسرائيل، إنما ترك الموضوع إلى اتفاق مالي يُعقد بين إسرائيل ومشغّل البلوك رقم 9 قبيل اتخاذه قرار الاستثمار النهائي، أي بعد الحفر وتقييم الكميّات، اللذين يأخذان من الوقت حوالى ثلاث سنوات بالحدّ الأدنى. فعندها ستطالب إسرائيل بحقوقها العائدة في المكمن وفق القانون الدولي، أي أنها ستعتبر أنّ الخط الحدودي المعترف به والمسجل في الأمم المتحدة هو الخط 23 وبالتالي لها كامل الحصة جنوب هذا الخط كما للبنان كامل الحصة شماله. وهي التي ستحدّد لشركة «توتال» وشركائها حصة الربح في هذا الحقل وليس العكس. وهكذا يكون لبنان قد تخلّى عن القسم الجنوبي من حقل قانا على عكس ما صرّح به رئيس الجمهورية بتاريخ 13 تشرين الأول 2022 عندما وافق على اتفاق الترسيم واعتبر أن كامل حقل قانا تعود ملكيته إلى لبنان.
الخديعة الخامسة: نصّت أيضاً الفقرة «هـ» من «اتفاق الترسيم»، على أنّه: «يتفهَّم الطرفان (جمهورية لبنان ودولة إسرائيل) أنّه رهناً ببدء تنفيذ الاتفاقية الماليّة، سيقوم مُشغِّل البلوك رقم 9 المُعتمد من لبنان بتطوير كامل المَكمَن المُحتمل حصرياً لصالح لبنان، وذلك تماشياً مع أحكام هذا الاتفاق».
من يقرأ هذه الفقرة يعتقد أنّ كامل حقل قانا هو حصرياً لصالح لبنان، ولكن هناك فارق كبير بين ما هو مكتوب «بأنّ عملية التطوير هي حصرياً لصالح لبنان»، وبين «أنّ الحصة بالكامل هي لصالح لبنان». والأخطر من ذلك أنّ عملية التطوير هذه مرهونة بالاتفاق الماليّ بين مشغّل البلوك رقم 9 وإسرائيل. ففي حال الاتفاق يمكن متابعة تطوير الحقل وصولاً للإنتاج، وفي حال عدم الاتفاق يتوقف كل شيء، ولا يستطيع لبنان إنتاج النفط والغاز من حقل قانا في حال اكتشافه، إنما في المقابل يتابع الإسرائيلي الإنتاج والتصدير من حقل كاريش دون أي عوائق تذكر.
من هنا سوف نسمع أن عملية الحفر في البلوك 9 وتحديداً في حقل قانا ستتمّ وفي غاية السرعة، والدليل على ذلك أن سفينة المسح البيئي أنجزت مهمّتها الأسبوع الماضي، وشركة «توتال» سوف تختار سفينة الحفر خلال أيام وسوف تبدأ الحفر قبل الموعد الذي كان محدّداً آخر العام 2023. هذا صحيح، كون الجميع بمن فيهم إسرائيل يريد أن يعرف على ماذا يحتوي حقل قانا، وإلى أين يمتدّ جنوب الخط 23. إلّا أنّه ممنوع على لبنان تطوير الحقل والوصول إلى الإنتاج إلا بموافقة إسرائيلية مع شركة «توتال» يكون لبنان خارجها. وفي حال اعترض لبنان على هذا الاتفاق، الذي سوف يكون على حسابه، تتوقّف عملية التطوير وفقاً لما هو مدوّن ومنصوص عنه في اتفاق الترسيم. عندها سيقبل لبنان بإعطاء إسرائيل كامل الحق على الجزء الجنوبي من حقل قانا ووفق شروطها، وإلّا لا نفط ولا غاز من حقل قانا مع استمرار تدفّق النفط والغاز من حقل كاريش إلى الأراضي المحتلة وإلى أوروبا.
الخديعة السادسة: نصّت أيضاً الفقرة «هـ» على أنه: «لا يؤثِّر أي ترتيب بين مُشغِّل البلوك رقم 9 وإسرائيل على الاتفاق المُبرم بين لبنان ومُشغِّل البلوك رقم 9 ولا على حصَّة لبنان الكاملة من حقوقه الاقتصاديّة في المَكمَن المُحتمل». كذلك الأمر، يعتقد من يقرأ هذه الفقرة المخادعة أنّ لبنان حصل على حقوقه كاملة في كامل حقل قانا، إنما هذه الفقرة واضحة وضوح الشمس أنّ ليس للبنان من حصة أو حقوق إلا شمال الخط 23، وليس له أي علاقة بجنوب هذا الخط. وللتأكيد على ذلك تمّ ذكر أنّ كامل حصة لبنان من حقل قانا هي وفقاً للاتفاق المبرم مع مشغّل البلوك رقم 9، والكل يعلم أنّ هذا الاتفاق المبرم والذي تمّ في العام 2018 لا يتخطّى الخط 23. وبالتالي كيف يصرّح البعض وهم من كان لهم الدور الأول في صياغة وموافقة لبنان على هذا الاتفاق بأنّ لبنان حصل على الخط 23 بالإضافة إلى كامل حقل قانا أينما يمتدّ جنوب هذا الخط؟
باختصار، ألا يعلم من يسوّقون لهذا الاتفاق بأنهم أخذوا توقيع رئيس الجمهورية على وثيقة تقبل باتفاق مع دولة إسرائيل، وأنّ هذا الاتفاق شرّع وأبقى إلى الأبد احتلال منطقة الناقورة من قبل العدوّ من خلال وثيقة خطيّة لم تكن موجودة سابقاً، وتنازل عن الخط 29 وحتى عن الجزء الجنوبي من حقل قانا؟ لا بل وضع شروطاً على شركات لبنانية ومنعها من العمل في مياه لبنانية، والأخطر من ذلك كلّه، أنّ هذا الاتفاق وضع الفيتو بيد الإسرائيلي لمنع شركة «توتال» من تطوير حقل قانا واستخراج النفط والغاز منه لصالح لبنان إلا وفق الشروط التي يريدها الإسرائيلي وفي الوقت الذي يريد، وكلّ هذا بموافقة خطيّة لبنانية من أعلى المراجع. فأين مجلس النوّاب من كل هذا؟ أين المادة 52 من الدستور؟
بكل بساطة، إنّها عبقرية العدو الإسرائيلي الذي فرض تاريخياً بالتفاوض ما يريد، يقابلها فساد المنظومة الحاكمة التي تستسهل التنازل عن السيادة لحفظ رأسها ومواقعها.