لبنانان لا لبنان واحد
طغا في الأسابيع الأخيرة جدال حول هوية لبنان، عربية أم فينيقية، ونقاش حول مستقبله، موحّد مركزيّ أم فيدراليّ أم دويلات. اللبنانيون الذين يرون لبنان عربياً، وأغلبيتهم من المسلمين، يتمسّكون بوحدته بلا فدرلة ولا تقسيم، في مواجهة من يرون لبنان فينيقياً غير عربي، ويطالبون بتقسيمه دويلات، أو في أضعف الإيمان تحويله إلى فدرالية.
وهذا النقاش غريب لأنّه يربط بين تاريخ الدولة ومصيرها، وهو ما يدفع البعض إلى اعتبار أيّ قراءة للماضي مغايرة عن التي يتبنّونها بمثابة خيانة وطنية اليوم، مع أن التاريخ للتاريخ، فيما يقوم الحاضر على المصالح لا على الأساطير.
والجدال هذا بدأ مع قيام لبنان الكبير، الذي أراد آباؤه المؤسّسون أن يقيموا لهوية تاريخية وثقافية ودينية منفصلة عن باقي عرب الإقليم لتفادي الانضمام إلى وحدة عربية تعيد غير السنّة في لبنان إلى الزمن العثماني الذي عاشوا فيه كذميين، أي مواطنين من الدرجة الثانية. هكذا، استنبط آباء لبنان المؤسّسون ما تيسّر من تاريخه الفينيقي، السابق للحضارة العربية، واعتبروا لبنان اليوم امتداد الدولة الفينيقية المتخيلة.
ولم يكن الآباء هؤلاء مسيحيين فحسب، بل كانوا خليطاً من غير السنة، وكان في طليعتهم زعيم الدروز الراحل كمال جنبلاط، الذي قال في خطاب في “الندوة اللبنانية” في عام 1946، أي بعد ثلاث سنوات على نيل لبنان الاستقلال، إن شاطئ لبنان “شاهد، منذ آلاف السنين، على نشوء أول دولة مدنيّة، ونمو وانتشار الفكرة القومية الأولى، وقيام أول إمبراطورية بحريّة، وظهور أول شكل نظام تمثيلي ديمقراطي تحقق في نظام الملكية الانتخابية والساقطين ومجلس المئة والأربعة أعضاء في قرطاجة”. وأضاف جنبلاط أن حضارة لبنان الفينيقية ظهرت يوم “كانت البشرية الأولى تتعثر في خطاها، وقبل أن يشع نور أثينا ويسيطر العدل الروماني على العالم القديم”.
ووصف جنبلاط لبنان بـ”البقعة النادرة من العالم”، واعتبر — مستعيراً من الأفكار التوحيدية حول نشوء الحكمة والعقل وآدم الصفاء — أنّ لبنان نما فيه “وعي قومي داخلي، كأن لبنان يعي لبنان، وكأن قيام أولى الحركات الاستقلالية فيه في الشرق على إطلاقه، تجلّ لهذا الوعي الذاتي العميق – في هذا الوطن ذي الحضارة الإنسانية المتفتح لجميع التيارات الفكرية العالمية”.
ومثل جنبلاط، وجد شيعة كثيرون في لبنان الكبير خلاصاً من تعسف حاكم دمشق على البقاع، ومن حملات والي عكّا التي أحرقت الجنوب وأهله مراراً. هكذا، يوم رسم الفرنسيون والبريطانيون الحدود اللبنانية – الفلسطينية، رسموا خطاً بين منطقة أغلبيتها من الشيعة والمسيحيين في لبنان، ومنطقة أغلبيتها من السنّة في فلسطين. لسبب ما، تم ترسيم سبع قرى مارونيّة – شيعية في الجانب الفلسطيني، ما زال لبنان يعتبرها، معنوياً، جزءاً منه، مع أن الانتداب رسمها في فلسطين.
بعد قيامه ليتناسب ومصالح أغلبيته من غير السنة، ابتكر لبنان هوية ربطته بالماضي الفينيقي. لكن العداء السياسي بين اللبنانيين الاستقلاليين واللبنانيين العروبيين تحوّل إلى عداء في التاريخ، فراح العروبيون السنّة ينكرون وجود الحضارة الفينيقية، فيما أمعن اللبنانيون غير السنّة في العداء للعروبة، فصوّروها مذهب بدو الصحراء والجمال من عديمي الحضارة ممّن غزوا لبنان، وحاولوا محو هويته الفينيقية عنوة. وزاد في العداء بين فينيقيي لبنان وعروبييه انتزاع الميليشيات الفلسطينية السيادة من دولة لبنان، بمساعدة لبنانيين ناصريين وعروبيين، خصوصاً أن الحركة القومية الفلسطينية تصوّرت نفسها عروبية إسلامية في عقودها الأولى، ولم تتبنَ خطاباً فلسطينياً قومياً إلى زمن اتفاقيات السلام الفلسطينية مع إسرائيل.
لكن السنّة خرجوا من عباءة العروبة مع دعم السعودية القوميات المحلية، بما في ذلك ياسر عرفات وفلسطينيّته، في وجه العروبة، الناصرية منها والبعثية. ومع حلول عام 1982، لعبت القيادات السنية دوراً أساسياً في طرد عرفات وميليشياته من لبنان، تلا ذلك عودة صانع لبنان في زمن ما بعد الحرب الأهلية رفيق الحريري من السعودية، وقيادته مصالحة بين الهوية اللبنانية كمصلحة قوميّة وسياسية، من ناحية، والعروبة كهوية ثقافية لا موجبات سياسية لها، من ناحية ثانية. وحسناً كتب المفكر اليساري فوّاز طرابلسي، الذي اعتبر أن رؤية الحريري للبنان كانت إعادة إحياء لرؤية أحد مؤسسي دولة لبنان الكبير، العراقي اللبناني ميشال شيحا.
على أن فرحة استقلاليي لبنان لم تكتمل، فمع انحسار القومية العربية السنية الناصرية، صعد بدلاً منها الإسلام الشيعي السياسي بقيادة إيران، فورثت ميليشيا الحزب البندقية السنية الفلسطينية، وورث “الحزب” تقويض سيادة لبنان باسم مشاريع عالمية وإقليمية عابرة للحدود، تحت طائلة تخوين أيّ لبناني يرى أن لبنان فينيقيّ مستقلّ عن العرب والمسلمين ومحايد عن قضاياهم.
إصرار “الحزب” على أن استقلال لبنان يعني انخراطه في المشاريع الدولية لمحاربة الإمبريالية والاستكبار العالمي، كما الإصرار على مواصلة الانخراط في المشاريع الإقليمية لتحرير فلسطين، أعاد النقاش بين المسيحيين حول أفضل سبل الانفصال عمّن كان اسمهم يوماً “موارنة الإسلام”، أي الشيعة، الذين يرفضون اليوم التزام الدستور اللبناني، ويقوّضون السيادة، ويتّهمون اللبنانيين، الذين يتمسكون بالأساطير الفينيقية المؤسسة والمطالبين بالفدرالية، على أنهم خونة وعملاء للغرب وإسرائيل.
لكن لا حاجة للغضب والتخوين، فالدول تقوم على مبدأ حرية الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما ينطبق على لبنان، إذ طالما تعذر التوصل إلى تفاهم مشترك حول معنى سيادة الدولة اللبنانية والحياد كمصلحة قومية للبلاد، لا بأس من تقسيم لبنان إلى دولتين أو أكثر. والتقسيم لا يعني بالضرورة تقسيماً طائفياً، بل على أساس جوهر الدولة ومصيرها، بعد ذاك يمكن الاتفاق أو الاختلاف على أساطيرها المؤسسة، فينيقية أم عربية أم الاثنتين معاً.
كاتب هذه السطور، مثلاً، من الطائفة الشيعية، ولكنه لا يوافق على فكرة تحويل هذه الطائفة إلى تنظيم عسكري حديدي يصرّ على الانخراط في الحروب العالمية والإقليمية، وتنعدم فيها حرية الرأي تحت طائلة المحاسبة القانونية بتهمة الخيانة الوطنية، أو التعييب المجتمعي، أو الإيذاء الجسدي، أو كلّ هذه مجتمعة.
وفي حال قام لبنان ثانٍ على شكل الإمارة الدرزية التاريخية، أو لبنان على شكل لبنان الصغير بحدود المتصرفية أو الجيب المسيحي الذي كان في الحرب الأهلية الأخيرة، فسأتخلى حتماً عن لبنان المقاومة، واستبدل جنسيتي اللبنانية الحالية بجنسية لبنان الدرزي أو لبنان المسيحي، أو أيّ لبنان آخر يرى في السلام التام، مع كل شعوب وحكومات العالم من دون استثناء، حجر زاوية اقتصاد مزدهر ومستقبل باهر. ولينتقل اللبنانيون، من كلّ الطوائف، المتحمسون لتحرير فلسطين وتكسير رأس أميركا، إلى لبنان المقاوم.
طالما أن أغلبية معادي الإمبريالية يشتمون اتفاقية سايكس – بيكو لأنها أقامت حدوداً مصطنعة بين الدول، فلِمَ التمسّك بهذه الحدود؟ يمكن التوجه إلى الشعوب المشرقية بالسؤال اليوم حول كيفيّة تقرير مصيرها، ورسم حدود جديدة لها تساهم في تحسين حالها ومستقبلها، وليكن بدلاً من لبنان الواحد لبنانان، أو ثلاثة، أو أربعة، أو أي ترتيب يقدّم خيارات تقلّص من الانقسامات والمواجهات والكراهية، وتسمح لكل مجموعة لبنانية، بغضّ النظر عن طائفة أفرادها، تحديد شكل دولتها وخياراتها ومصيرها.
ومن نافل القول إن أيّ دعوة الى التقسيم سيتم التعامل معها وكأنها هذيان أو خيانة عظمى، لكن هذا النوع من النقاشات يدور في أعتى ديموقراطيات العالم. بريطانيا أقامت استفتاءً للدخول في الاتحاد الأوروبي، وآخر للخروج منه، فيما فشل انفصاليو اسكتلندا في طلاق إنكلترا، ومثلهم فشل الكاتالان في الانفصال عن إسبانيا. الدول تظهر وتختفي بحسب مصالح شعوبها، ولبنان، الذي وصل عامه المئة وهو في موت سريري، ليس استثناء، بل يمكن تعديل شكله حتى يتناسب ومصالح ناسه، أو يرحل الناس إلى دول تناسب مصالحهم، وهو ما يحصل في لبنان في السنوات القليلة الماضية بوتيرة غير مسبوقة منذ ما قبل قيام الدولة.
*باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن