لهم الحرب ولنا العذراء…
كانت حرب تموز 2006. 33 يوما من الرعب غير المتوازن. أوصال لبنان مقطّعة. محافظاته متداخلة. الجنوب نزح الى البقاع وبيروت والجبل، البقاع بعضه صار في بيروت وغير أماكن، كسروان تحت رحمة طائرات الاستطلاع الاسرائيلية، “المقاومون” يزرعون الرعب اينما حلّوا، الجيش اللبناني بكل قواه بكل قواه يدافع عن القرى والناس ويستشهد بغزارة، الناس يستشهدون تحت وابل الرعب الاسرائيلي، نزوح، دمار هائل، طرق مقطّعة الاوصال، قصف جسر طريق ضهر البيدر أعلى الجسور في الشرق الاوسط، قصف جسر الفيدار، لبنان في الحرب، في الظلام الدامس. لا افق، لا بادرة أمل توحي بتوقّف هدير الموت. كان هذا قبل تلك الليلية، 14 آب، لم يكن شيئا على الاطلاق يوحي بان نهاية ما قريبة ستُكتب لهذه الحرب العبثية المدمّرة للانسان والكيان. هي حرب “لو كنت أعلم” كما كلنا صار يعلم. وفجأة يتناهى الى أسماعنا خبر انتهاء الحرب واعلان وقف اطلاق النار، ويوجّه “سيد” المقاومة نداء الى أبناء الجنوب للعودة الى منازلهم، ولا منازل… لم نستوعب. خاف الناس التجاوب. ظنوا ان ثمة كمين يحضّر لهم. ماذا حدث في يوم وليلة؟!! عاد لبنان ورتّب بيته. عاد الجنوب الى الجنوب والبقاع الى بقاعه. انتهت ضيافة اللبنانيين لبعضهم البعض. كان عرسا حقيقيا في التضامن. لم يقفل بيت أومدرسة أو مؤسسة بوجه من شرّدتهم المدافع من كرامتهم. كلنا كنا في بيت واحد نتقاسم الهمّ والخوف والخبز والسؤال، لماذا هذه الحرب؟ بأي حق تُشن علينا؟ بأي حق ندخل حربا ولبنان لم يقررها؟…ليلة عيد انتقال السيدة العذراء انتهت الاسئلة. كانت لهفة العودة الى الحياة أكبر من أي سؤال. في غمرة الخوف وتحت أزيز الصواريخ، نسينا لوهلة ان ثمة عين لا تفغل عنّا. في غمرة الحقد ننسى الحب. كانت هي، من فوق، ترافق الاطفال في بكائهم وتشرّدهم، واللبنانيين كل اللبنانيين، في نبض اليأس الذي كان بدأ يتآكلهم. ليلة عيدها نثرت العطر فوق أرض البخور التي حوّلوها أرض الرماد والجمر. فلشت ثوبها الازرق فوق رجائنا، سمعنا صوتها يقول لنا “لا تخافوا أنا معكم”. كانت معنا، نحن الذين رغم الحرب المسلّطة على مصيرنا، قاومنا بالايمان. لم نكن نملك غير سلاح. كان الجيش يستشهد كل يوم كل يوم، الناس يسقطون كشلالات مياه في هاوية سحيقة، نحو 1200 شهيد في شهر واحد، يا الله أي جحيم جائع هذا للحم الاطفال والابرياء، البيوت ساحات هول ودمار، السماء مسرح النار والذعر… وجاءت ليلة عيدها، انقشع الخوف، ظهرت الشمس من جديد. كان لون الحياة رماديا فجأة عدنا نرى اللون الاخضر. مشحتنا بالحياة بعدما مشحنا من كان “لو يعلم” برماد القبور. وحدها السيدة العذراء اوقفت هدير الدماء، وجهت الرسالة لنا بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم مهما استفرد بنا أسياد الشر والحروب، لسنا وحدنا ولن نكون خصوصا في أرض، مهما بدت محروقة، الا ان شعلة القداسة فيها تجد دائما مكانا لتشعّ ولو من قلب قلب الموت. لولا تلك السيدة، لولا ذاك الضوء، لولا ذاك الثوب الحنون الغامر لقلب الحب والرحمة، لكنا الان في غير مكان ولكان لبنان ابتلعه الغول، لكنا الان في الولاية يا سيدة النور، في ولاية العتم والجهل والغياهب. وحدها تلك السيدة وباسم ابنها الرب يسوع، كانت تعلم ان من يدّعون انهم لو كانوا يعلمون، كانوا يعلمون تماما وهم الان في ذروة اليقين وان لم يبوحوا، بان الارض التي يعبر فيها قديسون هي ارض منذورة لله، والارض المنذورة لله لا تسكنها ولا تحتلها ولا تغلبها رياح الغزاة مهما بلغت قوتهم واشتدّ بطشهم وبأسهم…ليلة عيد السيدة العذراء توقفت حرب تموز، وما زال الغزاة الجدد يحاولون، لكن ما همنا لنا ثوب السيدة ولهم كل آلات الموت والموت بحد ذاته…