نبش القبور بين الوعي والواقع
المسافة بين الوعي والواقع شاهقة.
إذ ينظر الواقع إلى الوعي على أنّه درب من الجنون والخيال.
ويرى الوعي الواقع بعين الجمود المستعصي.
وبغض النّظر عن المكان الذي تدار المعارك فيه بين كلّ منهما.
فالوعي مقرون بشكل الواقع وجوهره.
وكلّما كان الواقع أشدّ مرونة كلّما كان الوعي أشد انتصارًا.
وكلّما استنقع الواقع كلّما جاراه الوعي في استنقاعه.
ومهما ادّعينا القدرة على تقليص المسافة بينهما، يبقى ذلك مجرّد ادعاء.
ولطالما أتت نتائج السّعي إلى التّغيير على حساب الوعي.
حين غزت أمريكا العراق، قام العراقيون المرحّبون بالغزو، بجرف قبر مؤسس حزب البعث الرّاحل ميشال عفلق.
وقبل أيّام وقع بيني يدي تقرير عن تعدي داعش على قبر الشّاعر العربي العملاق أبي العلاء المعري.
ومنذ أيّام علت مناشدات للرّئيس عبد الفتّاح السّيسي لمنع محاولات الاعتداء على قبر عميد الأدب العربي طه حسين.
ومنذ وقت قصير رحل شاعر لبنانيّ كبير، ولكنّه وللأسف أيّد الاعتداء على سلمان رشدي.
القاسم المشترك بين الأحداث الثّلاثة هو تكفير سكّان تلك القبور، والّذي يعكس مهزلة الوعي الّذي يتحكّم بواقع هذه المنطقة.
فإنّ ميشيل عفلق كافر بالنّسبة لمؤمنين بعراق بلا بعث.
وإنّ أبا العلاء المعري كافر لأمّة لا مكان فيها لغير الإسلام الجامد كالدّواعش.
وطه حسين كافر لأكثر من تهمة في قبره، وربما كان الاقتصاد ممن اتّهموه بالكفر هناك.
يعلو الواقع فيدفع بالوعي إلى ارتفاعات أعلى. وينخفض فيشدّه إلى مستويات أدنى.
ذلك لأنّ الوعي الفرديّ رهين الوعي الجماعي.
أو ليس الإنسان ابن بيئته؟!
وعلى اعتبار أنّ أشرس عناصر البيئة تحكّما بالإنسان هي نظم التّفكير والسّلوك.
لم أكن في بيئتي المحليّة مرّة إلّا وقد شعرت بعجز وعيي أمام واقع تلك الجلسة.
ينخفص سقف الحديث فيها، ويدنو حتّى يكاد يلامس التّراب، فإذ بي أبدأ بمجاراته حتّى أبلغ الصّمت، لئلا أتكبد المزيد من الرّفض.
فإمّا أُجهّل، أو أُسب، وإمّا أُكفر، ويُهدر دمي.
ذلك لأنّ الوعي الواقعي هو نمط جافّ وقالب على الفرد الالتزام بكل تفاصيله، حتّى يتشبه بالجماعة، ويكون مجرّد نسخة عنها، وإلّا عليه دفع ثمن تفرّده واختلافه.
والواقع له من يقوده إلى قبحه ونشافه، وله من يحارب لئلّا يُسمح له بالتّقدم، وله من يفرضه بقوة الإساءة للوعي والتعدّي عليه.
فالسّماء بالنّسبة للمجتمعات المتديّنة غير متحرّكة، ولا متغيّرة، ولا متطوّرة، بل هي أشدّ جمودًا من واقعها، وأشد قبحًا، وموتا.
لا بل إن كثيرًا من أفراد هذه المجتمعات يجزم بأن أيّ تبدّل نحو الوعي يسيء إلى السّماء وساكنيها.
فموضة الملابس تهدّده، وحداثة الشّعر تهدده، وتبدل شكل العمارة يهدده، والتطور العلمي يعني زواله، وكلّ أشكال سير الإنسان قدمًا، تعكّر صفوه، وتستفزه للانقضاض عليها.
وحدها التّوجهات السّلبيّة، المقرونة بالانتكاسات، والّتي تؤدّي إلى الانهيار والتّردي، تجعله يشعر بالانتشاء والأمان.
ذلك لأنّ انحسار الوعي وتردّيه، يبعث فيه الحياة والقدرة على البقاء.
لقد أقيم في عواصم أوروبيّة عدد لا بأس به من النّصب التذكارية لشخصيّات عادت دولهم، وخاضت حروبًا ضدها، ولمفكّرين كفّرناهم في شرقنا المُليّل منذ قرون، واستثمرت شركات ضخمة في تماثيل أولئك الأعداء، حتّى غدت مصدر دخل وانتعاش، وتربية على تقبّل التّاريخ بكل أخطائه والآخر.
وإلى اليوم يعجز السّني في بيئة شيعيّة عن آداء صلته فيها، ويعجز الشّيعيّ عن شعائره في بيئات سنيّة.
أما المسيحي فلا زال مطالبًا بالجلاء عن هذه الأرض المقدّسة.
ولا تسلني أيها القارىء عن الدّرزي والصّابئي، لأنّك تعلم.
أمّا نحن المتّهمون بالإلحاد، فإننا نفضل أن تُحرق جثاميننا على أن تنبش قبورنا، لأننا نصرّ على هزم هذا الواقع المقرف، وألا نعيّر في نبشها بهزيمتنا.