هل تدفن الانتخابات تسوية العام 2016؟

هل تكون الأيام المعدودة حتّى 15 أيّار أيّاماً فاصلةً بين مرحلتين لبنانيّتين؟

فإذا كانت معالم المرحلة الجديدة يكتنفها الغموض في ظلّ تعقيدات الوضع الداخلي سياسيّاً واقتصادياً وفي ظلّ التقلّبات الكبيرة في مسارات السياسات الدولية والإقليمية حيال المنطقة ولبنان، فإنّه لا بدّ من مراجعة المرحلة الماضية التي يمكن تعريفها بناءً على حدثين: التسوية الرئاسية في خريف العام 2016، والانهيار الاقتصادي في خريف العام 2019.

بين هذين الخريفين دخل لبنان في شتاء سياسي واقتصادي طويل ما تزال عواصفه الهوجاء تتوالى واحدة تلو الأخرى مخلِّفة أضراراً كارثيّة على الدولة والمجتمع. ولذلك فإنّ أيّ وضع جديد ابتداءً من 16 أيّار لا بدّ أن يقوم على أنقاض هذه التسوية وهذا الانهيار. أي أنّه لا يمكن الحديث عن وضع جديد إن لم تكن الانتخابات محطّة أخيرة لدفن تسوية 2016 والتأسيس بالتوازي لمسار اقتصادي – اجتماعي يضع لبنان جدّيّاً على سكّة التعافي أو بالأحرى سكّة وقف الانهيار.

ليس المقصود بتسوية 2016 أركانها الرئيسيّين وحسب، بل منطقها السياسي الذي يمكن تلخيصه بمعادلة “حكم الأقوياء في طوائفهم”. هذا المنطق الذي فتح البلد على مسارات سياسيّة واقتصادية خطيرة عبر دفع المحاصصة الطائفية في الدولة إلى مستويات غير مسبوقة، ولا سيّما أنّها المرّة الأولى التي تتمّ فيها تغطية المحاصصة بالميثاقية، فتمّت “شرعنة” المحاصصة بحيث أُلغيت الحدود بين الدولة بوصفها الكيان الدستوري والقانوني الذي ينظّم حياة جميع اللبنانيّين وبين القوى السياسيّة الممسكة بزمام السلطة، فتحوّلت الدولة إلى دولة فئوية تُدار لمصلحة هذه القوى، أي ضدّ المجتمع بكلّيّته بدلاً من أن تكون الضمانة الوحيدة لهذا المجتمع.

لذلك يُفترض بهذه التسوية، التي شكلّ الحزب والتيار الوطني الحر وتيار المستقبل أركانها الأساسيّين، أن تلفظ في الأيّام الفاصلة عن استحقاق 15 أيّار أنفاسها الأخيرة باعتبار أنّ إحدى النتائج الرئيسية لهذه الانتخابات ستكون انتفاء قدرة الرئيس سعد الحريري والنائب جبران باسيل على لعب الدور السياسي نفسه كما في العام 2016 عندما كان كلّ منهما رئيس أكبر حزب في طائفته، وهو ما خوّلهما بحسب معادلة “حكم الأقوياء في طوائفهم” أن يكونا شريكَيْ الحزب في إنتاج التسوية الرئاسيّة المشؤومة.

بيد أنّ التغيير الحقيقي داخل اللعبة السياسيّة لن يكون بـ”خروج” الحريري وتقهقر باسيل، وإنّما بسقوط هذه المعادلة الجهنّميّة إلى الأبد. وهو ما لا يمكن أن يتحقّق ما دام الطرف الثالث في التسوية، أي الحزب، يهيمن بسلاحه على المجال السياسي بقوّة التهديد والتعطيل، ويفرض قوانين اللعبة السياسية وفق مصلحته التي تجسّدت بقوّة في تسوية 2016.

كسر الحلقة المفرغة

إنّها الحلقة المفرغة نفسها التي يدور فيها الوضع اللبناني قبل الانتخابات وبعدها، والتي تتمثّل في أنّه لا يمكن تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي مع الحزب، بسياساته الحالية، ولا يمكن تحقيقه من دونه. فبدلاً من أن يتغيّر الحزب ويقبل ببديهيّات وجود الدولة لناحية سيادتها على قرارها وأراضيها فإنّ القوى السياسيّة، بما فيها تلك المعارضة للحزب، مستعدّة لأن “تتغيّر” لتشارك الحزب الحكم، لدرجة أنّ هذا الاستعداد بات أصيلاً في سياسات هذه القوى التي تضع نصب أعينها الوصول إلى السلطة أيّاً يَكن شكل هذا الوصول وطبيعته.

ها هو الأمين العامّ للحزب حسن نصرالله يُعيد عشيّة الانتخابات التأكيد أنّ “حزبه هو من دعاة الشراكة الوطنية في بناء الدولة”، أي أنّه يُبدي من جديد استعداده لمشاركة الحكم مع خصومه الذين يتّهمهم الآن بالتواطؤ مع السفارات الخارجية لاستهداف سلاحه.

لكن عن أيّ دولة يتحدّث نصرالله، وعن أيّ شراكة؟

مراجعة سريعة لخطاب الأمين العامّ للحزب الإثنين الماضي تؤكّد المؤكَّد لناحية أنّ الحزب لا ينظر إلى الدولة إلّا بوصفها دولته، أي بوصفه مسيطراً على قرارها الاستراتيجي. فبعدما كان نصرالله قد سلّم بقرار الدولة بشأن مفاوضات ترسيم الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي في لحظة التقارب الإيراني الأميركي في مفاوضات فيينا، عاد في لحظة الافتراق أو التباين الأميركي – الإيراني إلى التدخّل علناً في هذا الملفّ من طريق التشكيك في نزاهة الوسيط الأميركي ودعوة الدولة إلى بدء التنقيب في بحر الجنوب بغضّ النظر عن مسار مفاوضات الترسيم.

قد يكون نصرالله محقّاً في التشكيك في نزاهة الوسيط الأميركي، لكنّه لم يجد نفسه معنيّاً بإطلاع الرأي العام اللبناني على أسباب تشكيكه هذا، بل اكتفى بالتشكيك وما على اللبنانيين إلّا الاقتناع والموافقة، وأمّا الدولة فغائبة وصامتة. والأدهى أنّ مَن يتسلّم ملفّ مفاوضات الترسيم هو رئيس الجمهورية الحليف الأقرب للحزب، وعلى الرغم من ذلك فإنّ الحزب الذي سبق أن سلّم بقرار الرئيس في هذا الملفّ ينقلب الآن على هذا التسليم ويُصدر تعليماته للرئيس والدولة لا لشيء إلّا لأنّ الظرف الإقليمي تغيّر. فإذا كانت هذه طبيعة شراكة الحزب مع حلفائه، فهل يمكن أن تكون شراكته مع خصومه أفضل وأنجح؟!

كلفة تجنّب الحرب الأهلية؟

إذا كانت التسوية مع الحزب حتميّة وضرورية بوصفه قوّة تمثيليّة في البرلمان فإنّ الضرورة الوطنية تقتضي ألّا تكون أيّ تسوية مع الحزب بعد الانتخابات بشروط الحزب كما في العام 2016، أي أن يلقى التغيير المرتجى في هذه الانتخابات ترجمته الأوّليّة في كيفيّة إدارة المفاوضات السياسيّة لتركيب السلطة بعد الانتخابات.

حتّى الآن لم تعطِ القوى السياسيّة المعارِضة المنهمكة في حسم المعركة الانتخابية داخل طوائفها ولو فيما بينها إشارات مطمئنة إلى استعدادها لدخول المرحلة الجديدة بذهنيّة مختلفة، وتحديداً لجهة جاهزيّتها لبناء جسم سياسي داخل البرلمان وخارجه يحقّق توازناً سياسياً بوجه الحزب الذي يسعى إلى إعادة إنتاج شراكة في الحكم هي في الواقع شراكة استسلامية لشروطه تحت محظور الحرب الأهليّة التي عاد نصرالله لطرحها الثلاثاء الماضي. هذه الشراكة الاستسلامية باتت بنظر الحزب السبيل الوحيد لتجنّب الحرب الأهليّة، وهو ما يضع الحياة السياسية والمجتمع والدولة أمام مسار “سيزيفيّ”، نسبة إلى الأسطورة الإغريقية، بمعنى أنّ الكلفة السياسيّة والوطنية لتجنّب الحرب الأهلية باتت هي نفسها كلفة الحرب الأهلية.

لقد حكمت هذه المعادلة المدمّرة كلّ مرحلة اللاحرب واللاسلم التي يعيشها لبنان منذ الحرب الأهلية، وقد أصبح من المحال الخروج من الوضع المأزقيّ الراهن من دون إسقاط هذه المعادلة من خلال إعادة الاعتبار لبديهيّات الدولة في وقت يجرّ الحزب الجميع إلى الصراع على هذه البديهيّات بغية إسقاطها وتكريس الخروج عليها، بل ودفع الآخرين إلى التأقلم مع الإسقاط والتكريس هذين.

هذه وظيفة أساسية من وظائف سلاح الحزب، أي تدمير هذه البديهيّات والدفع نحو التطبيع السياسي مع هذا التدمير بوصفه أمراً واقعاً. ولذلك يُعيد نصرالله، باعتباره أنّ المعركة الانتخابية هي حول سلاح الحزب، الصراع السياسي إلى نصابه الحقيقي والطبيعي، وهو رفض التطبيع السياسي مع سلاح الحزب لأنّه حائل دون الإصلاح السياسي والاقتصادي كما أثبتت التجربة منذ 17 تشرين 2019 حتّى الآن. لكن هل القوى السياسية المعارضة مستعدّة فعلاً لخوض هذا الصراع بخطاب جديد يأخذ في الاعتبار متغيّرات ما بعد 17 تشرين؟ للبحث صلة…

Back to top button